¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤ مدونة إسلامية للسيد* مصطفى عماد بن الشيخ الحسين * تالمست المغرب
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

2018/12/30

احفظ الله 2

Print Friendly and PDF

الخطبة الأولى

أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: ((يا غلام أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))
وفي رواية ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا))[2].
قال ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه.

إن في هذا الحديث من معاني التوحيد والتعلق بالله وحده وتسليم الأمور له وحده والطمأنينة بقضائه وقدره، ما يشعر المسلم معه بطمأنينة النفس وسكون الروح، وسمو المشاعر وانضباط الجوارح.

لقد علم النبي ابن عباس ذلك الغلام الفذ علّمه تلك الوصايا العظيمة الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة، وفيه درس عظيم لنا في أن نعلم أبناءنا ونساءنا ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وبث النصح والتوجيه المستمر، وفي الوقت المناسب، لتكون مصابيح في طريقهم إلى الخير
وقولُ النبي : ((احفَظِ الله)) أي: احفَظ حدودَه وحقوقه وأوامره ونواهيَه، فمن فعل ذلك استحقَّ حفظَ الله له وكان من الموعودِين بالجنّة كما قال الحقّ سبحانه: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].

ومِن أعظمِ ما يجِب حفظُه والعناية به إخلاصُ العبادةِ لله تعالى وحِفظ النفسِ مِن الوقوع في الشّركِ بشتَّى أنواعِه، فمَن أشرك بالله تعالى فقَد أضاع جهدَه وأحبط عمَلَه، قال الحقّ سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]. والمسلِمُ العاقل هو الذي يتفقَّد نفسَه وعمله لئلاّ يقع في شيءٍ من محبِطات الأعمال.

ومِن أعظم ما تجِب المحافظة عليه من أوامرِ الله الصلاةُ التي أمَرَ الله بها بقولِه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وجعل الفوزَ والفلاح للمؤمنين الذين هم على صلَواتهم يحافِظون، وجعل مفتاحَ الصلاةِ الطهارةَ التي هي كفّارة للذنوب ماحِيَة للخطايا، وقد ثبت في الحديثِ الصحيح أنّ النبيَّ قال: ((لا يحافِظ على الوضوء إلا مؤمِن)) رواه ابن ماجه في سننه ومالك في الموطأ بسند صحيح[3].

ومما أمر الله تعالى بحِفظه الجوارحُ، خصوصًا الفم والفرج، والتي هي أكثر ما يدخِل الناسَ النار، وقد قال الحقّ سبحانه في مدحِ المؤمنين المفلِحين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5]، وقالَ: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]، بل قد ضَمِن النبيّ الجنّةَ لمن حفِظ ما بين لحيَيه وما بين رجليه؛ وذلك أنّ الفمَ هو طريق أكلِ الحرام، وفيه اللّسان وهو طريقٌ لقولِ الحرَام، والفَرج قد تقع بسبَبه شهوةُ الحرام، فأكثر المعاصِي من هذه الأمور.

عبادَ الله، الجزاءُ مِن جنس العمل، وقد قال سبحانَه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وقَال: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، وقال: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة:40]، وكذلك من حفِظ حدودَ الله وحقوقَه والتزم أمرَه واجتنب نهيَه فإنّ الله تعالى يحفَظه ويرعاه ويكلَؤه، والحِفظُ عامّ في أمور الدنيا والآخرة، فمنها أنَّ الله تعالى يحفظ له مصالحَ دنياه، فيحفَظه في بدنِه وولده وأهلِه وماله، قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، أي: أنَّ هذا الحفظَ مِن أمر الله، والمعقِّباتُ الحافِظة هي الملائكة كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما[4]، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((معقِّباتٌ لا يخيب قائِلهن أو فاعلهنّ دُبرَ كلّ صلاةٍ مكتوبة: ثلاثٌ وثلاثون تسبيحة، وثلاثٌ وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة))[5]، وفي صحيح مسلم أيضًا أنّ النبي قال: ((من صلّى صلاةَ الصبح فهو في ذِمّة الله، فلا يطلبنّكم الله من ذمّتِه بشيء))[6]، بل إنَّ الحفظَ يسري إلى الذريّة كما حفِظ الله للغلامين كنزَهما فقال سبحانه: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، وقال عمَرُ بن عبد العزيز: "ما مِن مؤمنٍ يموت إلاّ حفِظه الله في عَقِبِه وعقِب عقبه"[7]، وقال ابن المنكدر: "إنّ الله ليحفظ بالرجل الصّالح ولده وولدَ ولدِه والدّوَيرات التي حولَه، فما يزالون في حفظ من الله وسِتر"[8].

وعَكس هذا من ضيَّعَ أمرَ الله أضاعَه الله، فضاع بين خلقِه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممّن كان يرجو نفعَه من أهله وغيرِهم.

وكما يحفظ الله تعالى عبدَه من شرِّ طوارِقِ الليلِ والنهار ومن الدوابِّ والهوام والإنس والجانّ فإنّ الله تعالى يحفظه أيضًا ويعصِمه في دينه وإيمانه، فيحفَظه من الشّبُهات المضِلّة والشهواتِ المحرَّمة، ويحفَظ عليه دينَه، فيتوفَّاه على الإيمان، وقد قال الله عزّ وجلّ عن يوسفَ عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وذلك أنّه حفِظ أمرَ الله في الغيبِ، وقال: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23] في موطنٍ لا يراه فيه إلاّ الله، وهرب من المعصيةِ، ودعا الله أن يصرفَ عنه كيدَ النّسوة، كلُّ ذلك مما استحقَّ به أن يدفَعَ الله عنه البلاءَ ويصرِفَ عنه السوءَ والفحشاء، ثمّ آتاه الله الملكَ.

وقد يحفَظ الله العبدَ بأنواعٍ من الحفظ قد لا يشعر بها، وقد يكون لها كارِهًا. أما من ضيَّع فإنّه لا يُحفَظ، وقد قال الحسن وقد ذكر أهلَ المعاصي: "هانوا عليه فعَصَوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم"[9].
   الخطبة الثانية

وفي قولِ النبي : ((تعرَّف إلى الله في الرّخاء يعرِفك في الشدّة)) حثٌّ على تقوَى الله وحِفظ حدوده في حال الرّخاء والصحّة والعافية والأمن، حتى إذا جاءَتِ الشدة وجدَ لُطفَ الله ورحمته وحفظَه ونصرَه أقربَ ما يكون.

ولما اشتدَّ الكرب بيونسَ عليه السلام في بطنِ الحوت نادَى في الظلمات أن لا إلهَ إلا أنتَ سبحانك إني كنتُ من الظالمين، فاستجاب الله دعاءَه ونجّاه من كربِه وأنقذَه من غمِّه، قال الله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]. ولما ذكر الله في سورةِ الأنبياء إجابتَه أيوبَ حين مسَّه الضرّ وذا النون وزكريّا قال سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وعند الترمذيّ بسندٍ حسن أنّ النبيَّ قال: ((من سرَّه أن يستجيبَ الله له عند الشدائد فليكثِرِ الدّعاءَ في الرّخاءِ))[10]، ومِصداقُ ذلك من كتاب ربِّنا قوله سبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].

فيا من تكالَبَت عليه الخطوبُ وتكاثَرَت عليه الكروب، أين أنت من علاّم الغيوب؟! إذا سألتَ فاسأَلِ الله، وإذا استَعَنت فاستعن بالله، فهو الذي يعطي ويمنَع، ويخفِض ويرفع، ويضرّ وينفع، ما النّاس إلا عبيده، والأمر أمرُه، فكيف يُرجَى غيره؟! أم كيف يؤمَّل سواه؟! وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]. من الذي نجَّى نبيَّنا محمّدًا وصاحبَه في الغار؟! من الذي نجَّى إبراهيم الخليل حين قُذِف في النار؟! من الذي فلَق البحرَ لموسى؟! من الذي رفَعَ عيسى؟! من المرَجَّى لكلِّ كربَة؟! من المؤمَّل لكلّ نازلة؟! إنّه الله القدير.

أيها المسلمون، وفي زمنٍ تكالَب فيه الأعداء على المسلِمين وتداعَوا عليهم كما تداعَى الأكلةُ على قصعَتِها لسنا نخشى ـ والله ـ من عدوِّنا بقدر ما نخشَى من ذنوبنا، فمن كان الله معَه فمن يخاف؟! ومن كان عَليه فمن يرجو؟!

إنَّ المتحتِّمَ علينا أن نحفظَ الله في أنفسنا وفي ديننا، وأن نتنادَى بالعودة إليه، فإن صدقنا مع الله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لكم