¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤ مدونة إسلامية للسيد* مصطفى عماد بن الشيخ الحسين * تالمست المغرب
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

2018/09/21

خطبة الجمعة : التوكل على الله

Print Friendly and PDF



بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله الذي وعد المتوكلين عليه بالكفاية التامة والمعونة ، وهون عليهم الأثقال وحمل عنهم المشقة والمؤنة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه .
أما بعد : أيها الناس ، اتقوا الله تعالى الذي خلقكم ورزقكم ورباكم ، والذي أطعمكم وكفاكم وآواكم ، والذي أنقذكم من الردى وهداكم ، وتوكلوا حق التوكل عليه في إصلاح دينكم ودنياكم ، واعلموا أن التوكل على الله من لوازم الإيمان ، وبه يتحقق للعبد كل خير وبر وامتنان ،
أما بعد: إن الأوضاع التي يعيشها المسلمون في هذه الفترة الحرجة قد تُضعف ثقة البعض بالله -عز وجل- في بعض الجوانب؛ لذا كان لزامًا التذكير ببعض مراتب الدين ومثبّتات اليقين من خلال نصوص القرآن وأنوار السنة وسيرة سلف هذه الأمة، لعلها تكون الترْيَاق الذي يتنفّس من خلاله المؤمن وهو يصارع قوى الشرّ
ومن اهم مراتب الدين التى وجب التذكير بها هو التوكل على الله لا على غيره، توكّلاً حقيقيًّا يُعيننا ويرفع عنّا عناء ما يهمنا ، توكّلاً يُخالج شِغاف قلوبنا، فنوقن من خلاله ضعف وهزال ما يملكه العالم من قوة مادية؛ لأنهم اعتمدوا عليها، ونحن اعتمادنا على جبار السماوات والأرض.
أيها المسلمون: لقد جاء الأمر بالتوكل في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة ومناسبات متكاثرة، بل لقد جعله شرطًا للإسلام والإيمان، فقال سبحانه: (إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ) [يونس:84]، وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23]، وقال عن أنبيائه ورسله: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) وقال في جزاء المتوكلين: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا) [الطلاق:3].
إنها نصوص -معاشر الأحبة- لو تفكرنا فيها ووقفنا عندها لصغر في أعيننا وقلوبنا كل ما ليس من الإسلام في شيء.
أيها المسلمون: إنني أذكر بهذا الموضوع المهم في هذه الظروف الحَرِجَة والمرحلة الحاسمة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، حيث تداعت عليها أمم الكفر من كل حَدَبٍ وصَوْب، بل حصل الظلم والبغي والعدوان الغاشم من قتل للمدنيين وترويع للنساء والأطفال والآمنين دون رعاية لحقوق الإنسان التي يدّعون، ولا للقوانين والأعراف الدولية التي يزعمون.
أيها المؤمنون: إن التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان ومن فيها وما عليها والدول وكل ما تملك، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلّق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، لا إله إلا هو، إنه صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضارّ، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله، وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وَهَجُها مهما ترادفت المتاعب.
المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية، ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين: "متى رضيتَ بالله وكيلاً وجدتَ إلى كل خير سبيلاً"، وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه".
التوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة، تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات.
التوكل الذي يَقوى الإنسان به ضَرْبٌ من الثقة بالله، يُنعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونًا ولا أملاً.
التوكل غذاء الجهاد الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالم الطغاة وبغي المستبدّين كما بيّنه الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم: 12].
التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصمّمة، وليس العجز والكسل.
أيها المسلمون: إن توكل المجاهدين في ساحاتهم والدعاة في ميادينهم والمربّين في محاضنهم لا ينافي الأخذ بالأسباب البينة، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله، فالمتوكلون في كتاب الله هم العاملون كما قال سبحانه: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:58، 59]، وإمام المتوكلين نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب، فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَرَ في بعض غزواته بين درعين، وتعاطى الدواء، وقال: "من يحرسنا الليلة؟!"، وأمر بغلق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: "اعقلها وتوكل"،
المؤمن هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا، إن تعسّر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسّر له كل شيء فبتيسير الله.
المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجهًا إلى عمله ومهنته، وإلى دعوته وجهاده، تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: "باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزِلَّ أو أُزَلّ، أو أَضِل أو أُضَل، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهَل أو يُجهل علي".
أيها المسلمون: من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظًا عمياء هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء.
إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطّالون، لن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه، والله يقول: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) [الزمر:36، 37]،
أيها المسلمون: إن للتوكل على الله آثارًا حميدة، ولذة عجيبة، لا يجدها إلا الخُلّص من عباد الله، وجدها إبراهيم -عليه السلام- عندما ألقي في النار، فتوكل عليه فصارت بردًا وسلامًا، ووجدها يوسف -عليه السلام- عندما ألقي في الجُبّ كما وجدها في السجن، ووجدها يونس -عليه السلام- في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، ووجدها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهم: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، وسيجدها كل من أخلص لله، وآوى إليه يأسًا من كل من سواه، منقطعًا عن كل شبهة في قوة، قاصدًا باب الله دون الأبواب كلها.
لو استقرت هذه الحقيقة في قلب المسلم استقرارًا صحيحًا لصمد كالطود أمام الأحداث وأمام الأشخاص وأمام القوى والقيم والاعتبارات، ولو تضافر عليه الإنس والجن بكل ما يملكون من طائرات ودبابات وصواريخ وعابرات القارات، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82].
هذا هو التوكل في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله.
أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إن الله ملاذنا فبه نلوذ، وهو معاذنا فبه نعوذ، به نعتصم ونلتجئ ونستعين، وعليه وحده نتوكل، (قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر:38].
أيها المسلمون: عند اشتداد الكروب، وتفاقم الخطوب، يتجلى إيمان المؤمنين، وفي خضم الحوادث وثنايا الكوارث يبرز صدق المتقين وزيف المنافقين وهوى المنحرفين، عند حلول الفتن وحصول المحن يظهر توجّه المتوكلين وتضييع المتواكلين؛ لأن الأحداث والمدلهمّات والشدائد والملمّات معايير دقيقة ومقاييس منضبطة لسَبْر أغوار الرجال وإظهارهم على حقائقهم، والموفق المُلهَم من كان مع الله في كل أحواله، وعرف ربه في سرائه وضرائه، وسار في كل أموره متوكلاً على الله معتصمًا به، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101].
اخيرا ايها الاحبة لنقف وقفة تأمل من نبي الله هود -عليه السلام-، قال الله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:54-56].
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر، رجل واحد، لم يؤمن معه إلاّ قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة ومادية في زمانهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء:128-130]، هؤلاء هم الذين واجههم هود -عليه السلام-، في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه، وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة ، لقد وقف هود -عليه السلام- هذه الوقفة لأنه يجد الفهم كل الفهم لمعنى التوكل في أبهى صوره، واجمل حلله .
فهل نجد نحن هذا المعنى للتوكل فى كل امور حياتنا فهذا هو الطريق لتغيير واقعنا واستعادة ثقتنا بالله تعالى ولنتذكر دائما وصية النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس (يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ
وليكن لسان حالنا في كل وقت من أوقاتنا ان نقول : اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك ، وأبرأ من الأمل إلا فيك ، وأبرأ من التسليم إلا لك ، وأبرأ من التفويض إلا إليك ، وأبرأ من التوكل إلا عليك ، وأبرأ من الصبر إلا علي بابك ، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك ، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم ، اللهم تتابع برك ، وأتصل خيرك ، وكمل عطائك ، وعمت فواضلك ، وتمت نوافلك ، وبر قسمك ، وصدق وعدك ، وحق علي أعدائك وعيدك