¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤ مدونة إسلامية للسيد* مصطفى عماد بن الشيخ الحسين * تالمست المغرب
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

2018/09/28

خطبة الجمعة الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللهِ الْمَتِينِ

Print Friendly and PDF



بسم الله الرحمان الرحيم
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالتَّآلُفِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِالإِسْلَامِ، وَهَدَى قُلُوبَنَا إِلَى عُرَى الإِيمَانِ، وَبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرِ الْوَرَى، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، سَيِّدُ الأَنَامِ، وَخَيْرُ مَنْ دَعَا إِلَى الْوَحْدَةِ وَالْوِئَامِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ- الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَرَاقِبُوهُ فَإِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَامْتَثِلُوا أَوَامِرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَوَاهِيَهُ وَزَوَاجِرَهُ، قَالَ تَعَالَى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102].
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ القُرْآنَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَعِيشُ فِي رُكَامٍ مِنَ المُعْتَقَدَاتِ البَالِيَةِ، وَالتَّقَالِيدِ المُخْتَلِفَةِ، الَّتِي مَزَّقَتِ الأُمَمَ، وَشَتَّتَتِ الشُّعُوبَ، فَأَحْدَثَ القُرْآنُ أَثَرًا عَجِيبًا، غَيَّرَ الأَفْهَامَ، وَبَدَّلَ الأَوْضَاعَ، وَدَعَا إِلَى فَضَائِلَ عَظِيمَةٍ، وَغَايَاتٍ نَبِيلَةٍ، وَقِيَمٍ إِسْلَامِيَّةٍ رَفِيعَةٍ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ: دَعْوَتُهُ إِلَى فَضِيلَةِ الِاعْتِصَامِ وَالْوِئَامِ، بَعْدَ التَّنَازُعِ وَالشِّقَاقِ، وَالتَّخَالُفِ وَالِافْتِرَاقِ، وَرَبَطَهَا بِمَصَالِحَ عَظِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، كَالْأَمْنِ وَالأَمَانِ، وَالقُوَّةِ وَالِاطْمِئْنَانِ، وَالْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( [آل عمران:103] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ« [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالجَابِيَةِ (وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ)، فَقَالَ: »يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا، فَقَالَ قَوْلًا، مِنْهُ: »عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُـمْ وَالفُرْقَـةَ؛ فَـإِنَّ الشَّيْطَانَ مَــعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِــنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ« [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
فَمَنِ اسْتَقْرَأَ مَقَاصِدَ الإِسْلَامِ وَمُحْكَمَاتِهِ، وَغَايَاتِ الدِّينِ وَمُسَلَّمَاتِهِ، يَلْمَسُ أَنَّ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللهِ، وَالِاجْتِمَاعَ وَالأُلْفَةَ مَقْصِدٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ، وَغَايَةٌ كُلِّيَّةٌ أَصِيلَةٌ، وَيُدْرِكُ مِقْدَارَ مَا أَوْلَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ عِنَايَةٍ بَالِغَةٍ، وَاهْتِمَامٍ كَبِيرٍ، بَلْ يَكَادُ أَنْ يَنْتَظِمَ ذَلِكَ أَبْوَابَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا.
فَقَدْ شَرَعَ اللهُ الصَّلَاةَ، وَأَوْجَبَ أَدَاءَهَا فِي جَمَاعَةٍ، فَتَتَلَاقَى الوُجُوهُ، وَتَتَرَاصُّ الصُّفُوفُ، وَتَلْتَصِقُ الأَقْدَامُ وَالْمَنَاكِبُ؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ« [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَشَرَعَ الزَّكَاةَ تَطْيِيباً لِنَفْسِ الفَقِيرِ، وَتَطْهِيرًا لَهَا مِنْ نَارِ الْحِقْدِ، وَحِفْظًا لِوَحْدَةِ الكَلِمَةِ، وَاجْتِمَاعِ الصَّفِّ.
وَفَرَضَ الصِّيَامَ لِيُوَحِّدَ الأُمَّةَ بِأَعْمَالِهِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَيُنَبِّهَ الْغَنِيَّ لِجُوعِ الفَقِيرِ فَيُطْعِمَهُ، وَيُعْطِيَهُ زَكَاةَ فِطْرِهِ لِيَسْتُرَهُ، فَيَسْلَمَ قَلْبُهُ مِنَ الضَّغِينَةِ عَلَى أَخِيهِ المُوسِرِ، وَشَرَعَ الحَجَّ لِقَاءً سَنَوِيًّا، وَمُؤْتَمَرًا مَوْسِمِيًّا، يَجْتَمِعُ فِيهِ المُسْلِمُونَ مِنْ شَتَّى الْبِقَاعِ، وَجَمِيعِ الأَصْقَاعِ، بَلْ أَلَا تَرَى أَنَّ العِبَادَاتِ وَالشَّعَائِرَ كَافَّةً لَا تَمَايُزَ فِيهَا وَلَا افْتِرَاقَ، القِبْلَةُ وَاحِدَةٌ، وَالشَّعَائِرُ وَاحِدَةٌ، وَالمَشَاعِرُ وَاحِدَةٌ؛ لِتَكُونَ الأُمَّةُ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا أَدْعَى لِجَمْعِ الكَلِمَةِ، وَوَحْدَةِ الصَّفِّ.
 وَفِي المُعَامَلَاتِ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِتَصَدُّعِ الصَّفِّ، وَتَفَرُّقِ الكَلِمَةِ، مِنَ الرِّبَا وَالْغِشِّ وَالنَّجْشِ وَغَيْرِهَا، وَنَهَتْ عَنْ تَعَدِّي المُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ؛ لِئَلَّا يُوَغِرَ قَلْبَهُ، وَيُفْسِدَ وُدَّهُ، فَتَسُودَ الأَحْقَادُ، وَتَنْتَشِرَ الْعَدَاوَاتُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ المُسْلِمُونَ:
لَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ: أَنَّ مَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ، وَيُوَحِّدُ صَفَّهُمْ، وَيُقَوِّي جَمَاعَتَهُمْ، هُوَ الِاعْتِصَامُ بِالْوَحْيِ المُبِينِ، وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِمُ الأَمِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ([الأنعام:153] فَهَذِهِ العَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ هِيَ أَصْلُ اعْتِصَامِنَا، وَجُلُّ وَحْدَتِنَا، وَسَبَبُ عِزَّتِنَا، وَمَكْمَنُ قُوَّتِنَا، وَأُسُّ حَضَارَتِنَا، هَدَانَا اللهُ بِهَا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَنْقَذَنَا بِهَا مِنَ النَّارِ، وَأَعَزَّنَا بِهَا بَعْدَ ذِلَّةٍ، وَكَثَّرَنَا بِهَا بَعْدَ قِلَّةٍ، مَا كَانَ العَرَبُ قَبْلَهَا يَعْرِفُونَ لِلْوَحْدَةِ دَلِيلًا، وَلَا لِلْقُوَّةِ سَبِيلًا، وَلَا لِلنَّهْضَةِ طَرِيقًا، كَمَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ التَّنَازُعَ هُوَ سَبِيلُ الفَشَلِ، وَالِاخْتِلَافَ قَرِينُ الضَّعْفِ، وَعَلَامَةُ الضَّيَاعِ، وَذَهَابُ الرِّيحِ؛ قَالَ تَعَالَى: )وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ([الأنفال:46] فَمَتَى حَدَثَ اخْتِلَافٌ، وَوَقَعَ شِقَاقٌ، دَبَّ الفَشَلُ فِي المُؤَسَّسَاتِ، وَانْتَشَرَ الهَرْجُ فِي الهَيْئَاتِ، وَظَهَرَ الضَّعْفُ العَامُّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ: ضَعْفٌ أَمَامَ النَّفْسِ، وَضَعْفٌ فِي الدَّاخِلِ، وَضَعْفٌ أَمَامَ أَهْلِ الشَّرِّ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ إِلَى هَدْمِ المُجْتَمَعِ وَتَدْمِيرِهِ؛ فَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: »أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ،وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ« [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
إِخْوَةَ الإِسْلَامِ:
وَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ الوَحْدَةِ وَالِاعْتِصَامِ هَامًّا، وَيُمَثِّلُ مَبْدَأً كُلِّيًّا أَصِيلًا، وَفَرِيضَةً إِسْلَامِيَّةً فَاعِلَةً كَانَ المَنْهَجُ الإِسْلَامِيُّ عَمَلِيًّا فِي تَرْسِيخِ الأُخُوَّةِ المُعْتَصِمَةِ بِحَبْلِ اللهِ الَّتِي يَقْوَى بِهَا بُنْيَانُ الِائْتِلَافِ، وَيُشَدُّ مِنْ خِلَالِهَا عَضُدُ الِاجْتِمَاعِ؛ فَلَا أُخُوَّةَ بِدُونِ إِيمَانٍ، وَلَا اعْتِصَامَ بِدُونِ عَقِيدَةٍ وَائْتِلَافٍ، قَالَ تَعَالَى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ( [الحجرات:10]، فَلَقَدْ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَجَعَلَ غُرَبَاءَ الدَّارِ إِخْوَةً لِلْأَنْصَارِ، يُقَاسِمُونَهُمْ دُورَهُمْ، وَيُنَاصِفُونَهُمْ أَمْوَالَهُمْ فِي صُورَةٍ مِثَالِيَّةٍ فَاقَتْ كُلَّ تَصَوُّرٍ، وَتَجَاوَزَتْ أَيَّ خَيَالٍ، فَكَانَ المُهَاجِرِيُّ يَرِثُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ ثُمَّ نُسِخَ حُكْمُهُ، فَلْنَقِفْ أَمَامَ هَذِهِ الوَقَائِعِ نَتَأَمَّلُ أَحْدَاثَهَا، وَنَسْتَوْعِبُ دُرُوسَهَا، وَنَسْتَلْهِمُ قِيَمَهَا فِي ظِلِّ اسْتِصْحَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: )وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ([الحشر:9] فَأَثْمَرَتْ تِلْكَ المَنْهَجِيَّةُ العَمَلِيَّةُ مُجْتَمَعًا قَوِيًّا مُتَمَاسِكًا مُعْتَصِمًا بِحَبْلِ اللهِ، يَدْفَعُ الخُصُومَ، وَيَنْشُرُ العَدْلَ وَالخَيْرَ، وَيَذُودُ عَنِ الْحَقِّ، انْضَوَى تَحْتَ رَايَتِهِ الرُّومِيُّ وَالحَبَشِيُّ، وَتَآخَى العَرَبِيُّ وَالفَارِسِيُّ، وَاسْتَظَلَّ بِظِلِّهِ القَبَلِيُّ وَالحَضَرِيُّ، مُسْتَجِيبِينَ لِأَمْرِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا([آل عمران:103].
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
لَقَدْ كَانَتْ دَوْلَةُ الْكُوَيْتِ وَمَا زَالَتْ مَضْرِبًا لِلْأَمْثَالِ فِي هَذَا العَصْرِ، وَنَمُوذَجًا يُحْتَذَى بِهِ، فِي مُجْتَمَعٍ يُعْرَفُ أَهْلُهُ بِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ الْقَوِيمَةِ، وَالتَّدَيُّنِ الوَسَطِيِّ الرَّشِيدِ، وَالوَحْدَةِ الإِسْلَامِيَّةِ المُتَسَامِحَةِ، وَتِلْكَ مِنَّةٌ تَسْتَدْعِي الحَمْدَ، وَتَقْتَضِي الشُّكْرَ، وَتَسْتَلْزِمُ أَنْ نَتَعَاهَدَ كَذَلِكَ بِأَنْ نَظَلَّ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، تَحْتَ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا عَصَبِيَّةَ تُفَرِّقُنَا، وَلَا عُنْصُرِيَّةَ تُمَزِّقُنَا، وَلَا اخْتِلَافَاتِ تَذْهَبُ بِقُوَّتِنَا، وَلَا أَهْوَاءَ تَزِيغُ بِنَا، مُسْتَلْهِمِينَ وَحْدَةَ الصَّفِّ، وَصِدْقَ الِانْتِمَاءِ مِنْ كِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسِيرَةِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، وَتَارِيخِ أَجْدَادِنَا؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قَالَ: »إنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي - أَوْ قَالَ : أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ«  [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]، خَاصَّةً وَأَنَّ الظَّرْفَ دَقِيقٌ، وَالشَّأْنَ بَالِغُ الخُطُورَةِ: مِنْ تَقَلُّبَاتٍ إِقْلِيمِيَّةٍ، وَاسْتِثْنَاءَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ، وَفِتَنٍ تَلُوحُ فِي الأُفُقِ مَا بَيْنَ مُبْتَدِعٍ يُخَطِّطُ وَيُؤَمِّلُ، وَنَاعِقٍ يَسْمَعُ وَيُحَرِّضُ، وَمُجْرِمٍ يَتَرَبَّصُ وَيَتَحَيَّنُ، وَلَا مَجَالَ فِي تِلْكَ الظُّرُوفِ وَالأَحْوَالِ إِلَّا لِلْوَعْيِ الرَّشِيدِ، وَالمَسْؤُولِيَّةِ المُدْرِكَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الإِيمَانِ بِالجَمَاعَةِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالعَقِيدَةِ، فَوَاللهِ - مَا مِنْ بَلَدِ تَمَزَّقَ شَمْلُهُ، وَتَقَاتَلَ أَهْلُهُ إِلَّا ضَاعَ فِيهِ الأَمْنُ وَالِاسْتِقْرَارُ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الكَلِمَةُ، وَانْحَلَّ فِيهِ عِقْدُ الطَّاعَةِ وَالجَمَاعَةِ، وَسَقَطَتْ مِنْهُ هَيْبَةُ الحُكْمِ، وَالتَّارِيخُ يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ، وَالوَاقِعُ يُصَدِّقُهُ.
نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ كِتَابِهِ، وَبِسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمَلِكُ الحَقُّ المُبِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَسَيِّدُ الخَلْقِ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
 أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى حَقَّ تُقَاتِهِ –عِبَادَ اللهِ- وَاجْتَمِعُوا عَلَى وَحْدَتِكُمْ وَائْتَلِفُوا، )وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ([آل عمران:105]، وَعَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُمْ، وَاشْكُرُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِعْمَةِ الإِسْلَامِ، وَاحْذَرُوا النِّزَاعَ وَالشِّقَاقَ وَالْخِصَامَ، وَاعْلَمُوا - أَيُّهَا المُسْلِمُونَ - أَنَّ مِنْ أَخْبَثِ وَسَائِلِ أَعْدَاءِ أُمَّتِنَا فِي وَقْتِنَا هَذَا، ضَرْبَ الِاعْتِصَامِ، وَاسْتِهْدَافَ الأُلْفَةِ وَالْوِئَامِ، وَأَنْ تُقَسَّمَ دُوَلُـنَا شِيَعًا وَمِلَلًا، وَأَنْ نَخْتَلِفَ مَذَاهِبَ وَنِحَلًا، وَأَنْ نَتَبَايَنَ غَايَاتٍ وَسُبُلًا، مِنْ خِلَالِ تَحَالُفَاتٍ خَفِيَّةٍ، وَمُنَظَّمَاتٍ إِرْهَابِيَّةٍ، وَتَقْسِيمِ المُجْتَمَعِ إِلَى انْتِمَاءَاتٍ فِكْرِيَّةٍ، وَتَيَّارَاتٍ مَذْهَبِيَّةٍ وَطَائِفِيَّةٍ، وَصِرَاعَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الوَاجِبُ عَلَيْنَا: أَنْ نَفْطِنَ لِهَذِهِ الْفِتَنِ وَالمُؤَامَرَاتِ، وَنَتَيَقَّظَ لِهَذِهِ المَكَائِدِ وَالمُخَطَّطَاتِ، وَأَنْ نَتَسَلَّحَ بِمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي الِاعْتِصَامِ، مُلْتَزِمِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الأَمْرِ، مُعَظِّمِينَ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالثَّوَابِتَ القَطْعِيَّةَ، مُعْتَصِمِينَ بِالجَمَاعَةِ، مُقْبِلِينَ عَلَى الْعِبَادَةِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ وَأَنْعِمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ وَصَحْبِهِ الأَبْرَارِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. اللَّهُمَّ اجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَنَا، وَاجْعَلْ فِي طَاعَتِكَ قُوَّتَنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا، اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَاهْدِنَا وَيَسِّرِ الْهُدَى لَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمَا لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لكم