¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤ مدونة إسلامية للسيد* مصطفى عماد بن الشيخ الحسين * تالمست المغرب
¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤¤

2019/02/21

خطبة الجمعة ( لَا تَغْضَبْ )

Print Friendly and PDF
الخطبة الاولى
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ، وَأَوْدَعَ فِيهِ نَفْسًا وَعَقْلًا وَغَرَائِزَ وَصْفَاتٍ، فَجَعَلَهُ قَابِلًا لِلِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ صِفَاتُ خَيْرِهِ عَلَى شَرِّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَغْلِبُ صِفَاتُ شَرِّهِ عَلَى خَيْرِهِ؛ تَبَعًا لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ طَبَائِعَ وَسَجَايَا، وَمَا تَجَمَّلَ بِهِ مِنْ أَخْلَاقٍ وَمَزَايَا، أَلَا وَإِنَّ مِنْ تِلْكُمُ الأَخْلَاقِ وَالطَّبَائِعِ: الغَضَبَ. وَهُوَ ثَوَرَانٌ فِي النَّفْسِ وَغَلَيَانٌ لِلدَّمِ فِي القَلْبِ يَحْمِلُ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي البَطْشِ وَالِانْتِقَامِ.
 وَهَذَا فِي غَايَةِ النَّقْصِ وَالعَيْبِ شَرْعًا وَعَقْلًا؛ فَهُوَ فِي الغَالِبِ: جِمَاعُ العَطَبِ والشَّرِّ، وَمَصْدَرُ الهَلَاكِ وَالضُّرِّ، وَعُنْوَانُ رُكُوبِ الهَوَى وَالحَمَاقَةِ، وَأَمَارَةُ الجَهَالَةِ وَالصَّفَاقَةِ، فَكَمْ هَدَّمَ مِنْ بُيُوتٍ عَظِيمَةٍ، وَشَرَّدَ مِنْ أُسَرٍ كَرِيمَةٍ، وَأَفْسَدَ مِنْ عَلَاقَاتٍ، وَقَطَّعَ مِنْ صِلَاتٍ!، وَكَمْ أَزْهَقَ مِنْ أَرْوَاحٍ زَكِيَّةٍ، وَأَسَالَ مِنْ دِمَاءٍ نَقِيَّةٍ، وَسَبَّبَ مِنْ حُرُوبٍ وَرَزَايَا، وَجَلَبَ مِنْ فِتَنٍ وَبَلَايَا!.
وَلِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ اللهَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي حَالِ الغَضَبِ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّ الغَضَبَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ التَّعَقُّلِ وَالِاعْتِدَالِ، وَيَدْفَعُهُ إِلَى الطَّيْشِ وَالخَبَالِ؛ فَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو: «أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ]. وَقَدْ قِيلَ: (عَدُوُّ العَقْلِ الْغَضَبُ)، وَيُقَالُ أَيْضاً: (كُلُّ العَطَبِ فِي الْغَضَبِ). وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: (أَوَّلُ الْغَضَبِ جُنُونٌ، وَآخِرُهُ نَدَمٌ).
وَقَدْ صَدَقَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ – رَحِمَهُ اللهُ – حِينَ قَالَ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْهَوَى وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:
إِنَّ الغَضَبَ لَيْسَ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ بَلْ مِنْهُ المَمْدُوحُ وَالمَذْمُومُ، فَالمَمْدُوحُ مِنْهُ مَا كَانَ غَيْرَةً لِدِينِ اللهِ، وَغَضَبًا لِانْتِهَاكِ مَحَارِمِ اللهِ، غَضَبًا يَدْعُوهُ إِلَى الغَيْرَةِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ بِطُرُقِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَسَالِيبِهِ المَرْعِيَّةِ، وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَقِمُ لَهَا، وَإِنَّمَا يَغْضَبُ لِلَّهِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُهُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ حَتَّى يُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَالمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ لِغَيْرِ الرَّحْمَنِ؛ بَلْ لِلْهَوَى وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَقَدْ قِيلَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ رَحِمَهُ اللهُ: اجْمَعْ لَنَا حُسْنَ الخُلُقِ فِي كَلِمَةٍ، فَقَالَ: (تَرْكُ الغَضَبِ). وَصَدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ- فَإِنَّ عَوَاقِبَ الغَضَبِ وَخِيمَةٌ وَنَتَائِجَهُ جَسِيمَةٌ؛ وَيُصَدِّقُهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ» فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».
فَحَرِيٌّ بِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ الغَضَبِ المَذْمُومِ؛ إِذِ الْغَضُوبُ يُهَيْمِنُ عَلَيْهِ الْهَوَى فَيَمْنَعُهُ مِنْ بُلُوغِ الْعُلَا، وَيُكَثِّرُ أَعْدَاءَهُ وَيُقَلِّلُ أَصْدِقَاءَهُ، وَيَزِيدُ مِنْ أَخْطَائِهِ وَغَلَطَاتِهِ، وَيَجْعَلُهُ رَهِينَ سُلُوكِهِ وَحَمَاقَاتِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ القَائِلِ:
لَا يَحمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ    وَلَا يَنَالُ العُلَا مَنْ طَبْعُهُ الغَضَبُ
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
إِنَّ لِلْغَضَبِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً تُثِيرُهُ، وَبَوَاعِثَ مُتَنَوِّعَةً تَسْتَثِيرُهُ، أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ تِلْكُمُ الأَسْبَابِ وَالبَوَاعِثِ: العُجْبَ وَالْكِبْـرَ، وَالحَمِيَّةَ وَالفَخْرَ؛ حَيْثُ تَدْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى التَّعَالِي عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الآدَمِيِّينَ، وَرُؤْيَةِ نَفْسِهِ فِي مَقَامٍ تَتَقَاصَرُ دُونَهُ أَعْنَاقُ الآخَرِينَ، إِمَّا بِمَالٍ أَوْ جَمَالٍ، أَوْ بِمَزِيدِ عِلْمٍ وَحُسْنِ فَهْمٍ، أَوْ بِنَسَبٍ أَوْ رُتَبٍ، كَمَا كَانَ مِنْ جَبَلَةَ بْنِ الأَيْهَمِ الغَسَّانِيِّ حِينَمَا كَانَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ إِذْ وَطِئَ عَلَى إِزَارِهِ رَجُلٌ مِنْ فَزَارَةَ فَحَلَّهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ جَبَلَةُ مُغْضَبًا وَلَطَمَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَهُ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَبَعَثَ إِلَى جَبَلَةَ يَقُولُ: مَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ لَطَمْتَ أَخَاكَ فَهَشَمْتَ أَنْفَهُ؟ قَالَ: إِنَّهُ وَطِئَ إِزَارِي فَحَلَّهَ، فَلَوْلَا حُرْمَةُ البَيْتِ لَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ، فَطَالَبَهُ عُمَرُ بِالْقَوَدِ لِلْفَزَارِيِّ، فَأَبَى جَبَلَةُ تَأَبِّيًا وَكِبْـرًا، ثُمَّ تَنَصَّرَ وَلَحِقَ بِهِرَقْلَ.
وَمِنَ الأَسْبَابِ أَيْضًا: الحَسَدُ، حَيْثُ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى الغَضَبِ عَلَى المَحْسُودِ لِأَتْفَهِ مَا يُمْكِنُ مِنْ أَفْعَالٍ أَوْ كَلَامٍ، وَتَثُورُ ثَائِرَةُ الهَوَى فِي نَفْسِهِ، وَتَؤُزُّهُ عَلَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ، فَكَمْ أَثَارَ الحَسَدُ مِنْ كَوَامِنِ الغَضَبِ، وَأَحْيَا مِنْ فِتَنٍ وَمِحَنٍ طَالَ بِهَا العَجَبُ!.
وَمِنْهَا: الجَدَلُ وَالْمُمَارَاةُ وَالعُدْوَانُ، وَالخُصُومَةُ فِي البَاطِلِ وَالبُهْتَانِ؛ الَّتِي تَسْتَثِيرُ مَا فِي النُّفُوسِ، وَتُهَيِّجُ مَا فِي القُلُوبِ، وَالحِرْصُ عَلَى فُضُولِ الأَمْوَالِ وَالْجَاهِ وَالمَنَاصِبِ، وَحُبُّ المَحْمَدَةِ وَالظُّهُورِ وَالمَرَاتِبِ، وَكُلُّ هَذَا يُؤَدِّي بِصَاحِبِهِ إِلَى الغَضَبِ إِذَا مَا أَرَادَ أَحَدٌ مُنَافَسَتَهُ فِي هَذِهِ أَوْ مُغَالَبَتَهُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الغَضَبِ كَذَلِكَ: ظَنُّ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ التَّهَوُّرَ شَجَاعَةٌ، وَأَنَّ سُرْعَةَ الغَضَبِ عِزَّةُ نَفْسٍ وَكَرَامَةٌ، وَهُوَ مَفْهُومٌ خَاطِئٌ لِلْغَضَبِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَلِلْمُنْكَرِ الَّذِي يَشِينُهُ الشَّرْعُ وَيَأْبَاهُ، فَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذَا مَرَضٌ عُضَالٌ وَدَاءٌ قَتَّالٌ، وَنُقْصَانُ عَقْلٍ وَضَعْفُ دِيَانَةٍ، وَسُوءُ خُلُقٍ وَقِلَّةُ رَزَانَةٍ؛ بَلِ الشُّجَاعُ هُوَ مِنْ يَتَحَلَّمُ عِنْدَ الغَضَبِ، وَيَكُفُّ أَسْبَابَهُ وَيُوصِدُ أَبْوَابَهُ؛ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وَقَانِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ شَرَّ الغَضَبِ وَأَسْبَابِهِ، وَأَوْصَدَ عَنَّا جَمِيعَ أَبْوَابِهِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ المُسْلِمِينَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ خَيْرُ الغَافِرِينَ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَسَّمَ بَيْنَ خَلْقِهِ الأَخْلَاقَ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَهُمُ الأَرْزَاقَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْكَرِيمُ الرَّزَّاقُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ التَّلَاقِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تَقْوَاهُ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ لِلْغَضَبِ آثَارًا خَطِيرَةً، وَعَوَاقِبَ تَجُرُّ شُرُورًا كَثِيرَةً؛ فَهُوَ يُوَلِّدُ بَيْنَ النَّاسِ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، وَيُورِثُ بَيْنَهُمُ الحِقْدَ وَالشَّحْنَاءَ، وَيَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى عَدَمِ إِدْرَاكِ الأُمُورِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَتَوَهُّمِ الأَشْيَاءِ عَلَى غَيْرِ طَبِيعَتِهَا، وَيَدْفَعُهُ إِلَى العَجَلَةِ وَالتَّهَوُّرِ، وَإِلَى إِفْسَادِ العَلَاقَاتِ، وَتَقَطُّعِ الصِّلَاتِ، وَقَدْ يَصِلُ الغَضَبُ بِصَاحِبِهِ إِلَى القَتْلِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَيَجُرُّ إِلَى الفِتَنِ وَالحُرُوبِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، كَمَا أَنْهُ يُؤَدِّي إِلَى الإِيذَاءِ النَّفْسِيِّ وَالبَدَنِيِّ وَالصِّحِّيِّ؛ فَيَعْزِلُ الْغَضُوبَ عَنِ النَّاسِ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى تَجَنُّبِهِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِجَانِبِهِ؛ اتِّقَاءً لِشَرِّهِ، وَبُعْدًا عَنْ ضُرِّهِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ    وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
عِبَادَ اللهِ:
وَإِذَا كَانَ الغَضَبُ فِي غَالِبِهِ مَذْمُومًا، وَكَانَ سَهْمُ رَامِيهِ مَسْمُومًا؛ فَهُوَ - إِذًا - دَاءٌ مِنَ الأَدْوَاءِ، وَلِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، وَإِنَّ مِمَّا يُعَالَجُ بِهِ الغَضَبُ: اجْتِنَابَ أَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ، وَالنَّأْيَ عَنِ البَوَاعِثِ الحَامِلَةِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُعَالَجُ بِهِ الغَضَبُ أَيْضًا: الِالْتِجَاءُ إِلَى اللهِ، وَالتَّحَصُّنُ بِذِكْرِهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ ؛ فَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ  رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ أَحَدُهُمَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ» [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَمِنْهَا: السُّكُوتُ لِيَقْطَعَ مَسَالِكَ الشَّيْطَانِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ« [رَوَاهُ القُضَاعِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ].
وَمِنْهَا كَذَلِكَ: تَغْيِيرُ الحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا؛ فَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
وَمِنْ دَوَاءِ الغَضَبِ أَيْضًا: تَذَكُّرُ مَا يُوَرِّثُهُ مِنْ عَوَاقِبَ وَآثَارٍ، وَمَا يَجْلِبُهُ مِنْ آثَامٍ وَأَضْرَارٍ، وَمُقَارَنَةُ ذَلِكَ بِنَتَائِجِ كَظْمِ الغَيْظِ العَاجِلَةِ، وَثَمَرَاتِهِ الطَّيِّبَةِ الآجِلَةِ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ].
وَعَلَى المَرْءِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَدْيِ السُّنَّةِ وَالكِتَابِ، وَيَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الآدَابِ، وَيُمَرِّنَ نَفْسَهُ عَلَى تَحَمُّلِ الغَضَبِ وَكَبْحِ جِمَاحِهِ، وَيَتَدَرَّبَ عَلَى الِابْتِعَادِ عَنْ أَسْبَابِهِ وَعَلَى حُسْنِ الخُلُقِ وَخَفْضِ جَنَاحِهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالأَئِمَّةِ الحُنَفَاءِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، وَالمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِينَ، وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وَسُوءٍ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحقِّ والتَّقْوَى، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شكرا لكم